فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن العربي:

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
حَمَلَهَا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُنَا لَهُ قَوْمٌ عَلَى أَنَّهَا سَجْدَةُ تِلَاوَةٍ، فَسَجَدُوهَا.
وَقال آخَرُونَ: هُوَ سُجُودُ الصَّلَاةِ، فَقَصَرُوهُ عَلَيْهِ.
وَرَأَى عُمَرُ أَنَّهَا سَجْدَةُ تِلَاوَةٍ.
وَإِنِّي لَأَسْجُدُ بِهَا وَأَرَاهَا كَذَلِكَ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَغَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قرأ سُورَةَ الْحَجِّ، فَسَجَدَ فِيهَا السَّجْدَتَيْنِ، ثُمَّ قال: إنَّ هَذِهِ السُّورَةَ فُضِّلَتْ بِسَجْدَتَيْنِ.
قال مَالِكٌ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قال: رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ يَسْجُدُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ سَجْدَتَيْنِ.
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ أَكْثَرَ الْخَلْقِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قُدْوَةً.
رَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ «قُلْت لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفِي سُورَةِ الْحَجِّ سَجْدَتَانِ؟ قال: نَعَمْ.وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا لَا يقرأهُمَا»، رَوَاهُ وَهْبُ بْنُ لَهِيعَةَ عَنْ مُسَرِّحِ بْنِ هَاعَانَ عَنْهُ.
قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ} فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
المسألة الأولى:
الْحَرَجُ هُوَ الضِّيقُ، وَمِنْهُ الْحَرَجَةُ، وَهِيَ الشَّجَرَاتُ الْمُلْتَفَّةُ لَا تَسْلُكُ؛ لِالْتِفَافِ شَجَرَاتِهَا، وَكَذَلِكَ وَقَعَ التَّفْسِيرُ فِيهِ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
رُوِيَ أَنَّ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ جَاءَ فِي نَاسٍ مِنْ قَوْمِهِ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَسَأَلَهُ عَنْ الْحَرَجِ، فَقال: أَوَ لَسْتُمْ الْعَرَبَ؟ فَسَأَلُوهُ ثَلَاثًا.
كُلُّ ذَلِكَ يقول: أَوَ لَسْتُمْ الْعَرَبَ، ثُمَّ قال: اُدْعُ لِي رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٍ، فَقال لَهُ: مَا الْحَرَجُ فِيكُمْ؟ قال: الْحَرَجَةُ مِنْ الشَّجَرَةِ: مَا لَيْسَ لَهُ مَخْرَجٌ.
وَقال ابْنُ عَبَّاسٍ: ذَلِكَ الْحَرَجُ، وَلَا مَخْرَجَ لَهُ.
المسألة الثَّانِيَةُ:
فِي مَحَلِّ النَّفْي: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قوله تعالى: {وما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} قال: هذا فِي تَقْدِيمِ الْأَهِلَّةِ وَتَأْخِيرهَا بِالْفِطْرِ، وَالْأَضْحَى، وَفِي الصَّوْمِ.
وَثَبَتَ صَحِيحًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: تَقُولُ: مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، إنَّمَا ذَلِكَ سَعَةُ الْإِسْلَامِ: مَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ التَّوْبَةِ وَالْكَفَّارَاتِ.
وَقال عِكْرِمَةُ: أُحِلَّ لَكُمْ مِنْ النساء مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ وما مَلَكَتْ يَمِينُكَ.
قال الْقَاضِي: قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ.وَقَدْ كَانَتْ الشَّدَائِدُ وَالْعَزَائِمُ فِي الْأُمَمِ، فَأَعْطَى اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ مِنْ الْمُسَامَحَةِ وَاللِّينِ مَا لَمْ يُعْطِ أَحَدًا قَبْلَهَا فِي حُرْمَةِ نَبِيِّهَا، وَرَحْمَةِ نَبِيِّهَا صلى الله عليه وسلم لَهَا».
فَأَعْظَمُ حَرَجٍ رَفْعُ الْمُؤَاخَذَةِ بِمَا نُبْدِي فِي أَنْفُسِنَا وَنُخْفِيهِ، وما يَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ إصْرٍ وُضِعَ، كَمَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَغَيْرِهَا.
وَمِنْهَا التَّوْبَةُ بِالنَّدَمِ، وَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الْعَوْدِ فِي الْمُسْتَقْبِلِ، وَالِاسْتِغْفَارُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ.
وَقِيلَ لِمَنْ قَبْلَنَا: {فَتُوبُوا إلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}، وَلَوْ ذَهَبْت إلَى تَعْدِيدِ نِعَمِ اللَّهِ فِي رَفْعِ الْحَرَجِ لَطَالَ الْمَرَامُ.
وَمِنْ جُمْلَتِهِ أَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُنَا تعالى إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا.
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ أَيْضًا فِيمَا قَبْلَ ذَلِكَ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَغَيْرِهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ، فَقال رَجُلٌ: لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ. قال: اذْبَحْ، وَلَا حَرَجَ.فَجَاءَ آخَرُ، فَقال: لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ فَقال: ارْمِ وَلَا حَرَجَ.فَمَا سُئِلَ يَوْمَهُ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إلَّا قال: افْعَلْ وَلَا حَرَجَ».
فَأَعْجَبُ لِمَنْ يقول: إنَّ الدَّمَ عَلَى مَنْ قَدَّمَ الْحَلْقَ عَلَى النَّحْرِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ قال: وَلَا حَرَجَ، وَلَقَدْ نَزَلَتْ بِي هَذِهِ النَّازِلَةُ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ، كَانَ مَعِي مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ، فَلَمَا رَمَيْت جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، وَانْصَرَفْت إلَى النَّحْرِ جَاءَ الْمُزَيِّنُ وَحَضَرَ الْهَدْيَ، فَقال أَصْحَابِي: نَنْحَرُ وَنَحْلِقُ، فَحَلَقْت، وَلَمْ أَشْعُرْ قَبْلَ النَّحْرِ، وما تَذَكَّرْت إلَّا وَجُلُّ شَعْرِي قَدْ ذَهَبَ بِالْمُوسَى، فَقُلْت: دَمٌ عَلَى دَمٍ، لَا يَلْزَمُ، وَرَأَيْت بَعْدَ ذَلِكَ الِاحْتِيَاطَ لِارْتِفَاعِ الْخِلَافِ. وَالْحَقُّ هُوَ الْأَوَّلُ، فَهُوَ الْمَعْقُولُ.
المسألة الثَّالِثَةُ:
إذَا تَعَارَضَ دَلِيلَانِ أَحَدُهُمَا بِالْحَظْرِ، وَالآخر بِالْإِبَاحَةِ، فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ مَالَ إلَى الِاسْتِظْهَارِ، وَقال: يُقَدَّمُ دَلِيلُ الْحَظْرِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قال: يُقَدَّمُ دَلِيلُ الْإِبَاحَةِ، وَيَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ مَقَاصِدُ مَالِكٍ، إلَّا فِي بَابِ الرِّبَا، فَيُقَدَّمُ دَلِيلُ الْحَظْرِ، وَذَلِكَ مِنْ فِقْهِهِ الْعَظِيمِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى زِيَادَةِ رُكْنٍ فِي الْعِبَادَةِ، أَوْ شَرْطٍ، وَقَامَ الدَّلِيلُ عَلَى إسْقَاطِهِ، فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا فِيهِ؛ فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَخَذَ بِالِاحْتِيَاطِ، وَقَضَى بِزِيَادَةِ الرُّكْنِ وَالشَّرْطِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَ بِالْخِفَّةِ، وَقال بِدَلِيلِ الْإِسْقَاطِ، وَلَمْ يُعَوِّلْ مَالِكٌ هَاهُنَا عَلَى أَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ: كَانَ بِزِيَادَةٍ أَوْ بِإِسْقَاطٍ، وَرَأْيُهُ هُوَ الَّذِي نَرَاه وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، فَهُنَالِكَ يُنْظَرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
المسألة الرَّابِعَةُ:
إذَا كَانَ الْحَرَجُ فِي نَازِلَةٍ عَامًّا فِي النَّاسِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ، وَإِذَا كَانَ خَاصًّا لَمْ يُعْتَبَرْ عِنْدَنَا، وَفِي بَعْضِ أُصُولِ الشَّافِعِيِّ اعْتِبَارُهُ، وَذَلِكَ يُعْرَضُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ؛ فَمِنْهُ خُذُوهُ بِعَوْنِ اللَّهِ. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {وَجَاهِدُواْ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِِهِ}.
قال السدي: اعملوا لله حق عمله، وقال الضحاك أن يطاع فلا يعصى ويُذْكر فلا يُنْسَى ويُشْكر فلا يُكْفَر. وهو مثل قوله تعالى: {اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102].
واختلف في نسخها على قولين:
أحدهما: أنها منسوخة بقوله تعالى: {فَاتَقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].
والثاني: أنها ثابتة الحكم لأن حق جهاده ما ارتفع معه الحرج، روى سعيد بن المسيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ دِيْنِكُمْ أَيْسَرَهُ». {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} أي اختاركم لدينه.
{وما جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} يعني من ضيق، وفيه خمسة أوجه:
أحدها: أنه الخلاص من المعاصي بالتوبة.
الثاني: المخرج من الأيمان بالكفارة.
الثالث: أنه تقديم الأهلة وتأخيرها في الصوم والفطر والأضحى، قاله ابن عباس.
الرابع: أنه رخص السفر من القصر والفطر.
الخامس: أنه عام لأنه ليس في دين الإٍسلام ما لا سبيل إلى الخلاص من المأثم فيه.
{مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه وسع عليكم في الدين كما وسع ملة أبيكم إبراهيم.
الثاني: وافعلوا الخير كفعل أبيكم إبراهيم.
الثالث: أن ملة إبراهيم وهي دينه لازمة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وداخلة في دينه. الرابع: أن علينا ولاية إبراهيم وليس يلزمنا أحكام دينه.
{هُوَ سَمَاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هذا} فيه وجهان: أحدهما: أن الله سماكم المسلمين من قبل هذا القرآن وفي هذا القرآن، قاله ابن عباس ومجاهد.
الثاني: أن إبراهيم سماكم المسلمين، قاله ابن زيد احتجاجًا بقوله تعالى: {ومن ذريتنا أمة مسلمة لك} [البقرة: 128].
{لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شهداء عَلَى النَّاسِ} فيه وجهان: أحدهما: ليكون الرسول شهيدًا عليكم في إبلاغ رسالة ربه إليكم، وتكونوا شهداء على الناس تُبَلِغُونَهُم رسالة ربهم كما بلغتم إليهم ما بلغه الرسول إليكم.
الثاني: ليكون الرسول شهيدًا عليكم بأعمالكم وتكونوا شهداء على الناس بأن رُسُلَهُم قد بَلَّغُوهم.
{فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} يعني المفروضة.
{وَءَآتُواْ الزَّكَاةِ} يعنى الواجبة. {وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ} فيه وجهان: أحدهما: امتنعوا بالله، وهو قول ابن شجرة.
والثاني: معناه تمسّكوا بدين الله، وهو قول الحسن.
{هُوَ مَوْلاَكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: مَالِكُكُم.
الثاني: وليكم المتولي لأموركم.
{فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصَيرُ} أي فنعم المولى حين لم يمنعكم الرزق لما عصيتموه، ونعم النصير حين أعانكم لما أطعتموه. اهـ.

.قال ابن عطية:

{يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اركعوا واسجدوا}.
ثم أمر الله تعالى المؤمنين بعبادته وخص الركوع والسجود بالذكر تشريفًا للصلاة، واختلف الناس هل في هذه الآية سجدة؟ ومذهب مالك أنه لا يسجد هنا، وقوله: {وافعلوا الخير}، ندب، فيما عدا الواجبات التي صح وجوبها من غير هذا الموضع، وقوله: {لعلكم} ترجٍّ في حق المؤمنين كقوله: {لعله يتذكر أو يخشى} [طه: 44] والفلاح في هذه الآية نيل البغية وبلوغ الأمل.
{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ}.
قالت فرقة: هذه آية أمر الله تعالى فيها الجهاد في سبيله وهو قتال الكفار، وقالت فرقة: بل هي أعم من هذا وهو جهاد النفس وجهاد الكافرين وجهاد الظلمة وغير ذلك، أمر الله تعالى عباده بأن يفعلوا ذلك في ذات الله حق فعله ع والعموم حسن وبين أن عرف اللفظة تقتضي القتال في سبيل الله، وقال هبة الله وغيره: إن قوله: {حق جهاده} وقوله في الأخرى، {حق تقاته} [آل عمران: 102] منسوخ بالتخفيف إلى الاستطاعة ع ومعنى الاستطاعة في هذه الأوامر هو المراد من أول الأمر فلم يستقر تكليف بلوغ الغاية شرعًا ثابتًا فيقال إنه نسخ بالتخفيف، وإطلاقهم النسخ في هذا غير محدق، و{اجتباكم} معناه تخيركم، وقوله: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} معناه من تضييق يريد في شرعة الملة، وذلك أنها حنيفية سمحة ليست كشدائد بني إسرائيل وغيرهم بل فيها التوبة والكفارات والرخص ونحو هذا مما كثر عده، والحرجة الشجر الملتف المتضايق، ورفع الحرج لجمهور هذه الأمة ولمن استقام على منهاج الشرع، وأما السلابة والسرّاق وأصحاب الحدود فعليهم الحرج وهم جاعلوه على أنفسهم بمفارقتهم الدين، وليس في الشرع أعظم حرجًا من إلزام ثبوت رجل لاثنين في سبيل الله ومع صحة اليقين وجودة العزم ليس بحرج، وقوله: {ملة}، نصب بفعل مضمر تقديره بل جعلها أو نحوه من أفعال الإغراء، وقال الفراء هو نصب على تقدير حذف الكاف كأنه قال كلمة وقيل هو كما ينصب المصدر، وقوله: {هو سماكم}، قال ابن زيد الضمير لـ: {إبراهيم} والإشارة إلى قوله: {ومن ذريتنا أمة مسلمة لك} [البقرة: 128]، وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد الضمير لله تعالى، و{من قبل}، معناه في الكتب القديمة {وفي هذا}، في القرآن، وهذه اللفظة تضعف قول من قال: الضمير لـ: {إبراهيم} ولا يتوجه إلا على تقدير محذوف من الكلام مستأنف، وقوله: {ليكون الرسول شهيدًا عليكم} أي بالتبليغ، وقوله: {وتكونوا شهداء على الناس} أي بتبليغ رسلهم إليهم على ما أخبركم نبيكم، وأسند الطبري إلى قتادة أنه قال: أعطيت هذه الأمة ما لم يعطه إلا نبي، كان يقول للنبي أنت شهيد على أمتك وقيل لهذه {وتكونوا شهداء على الناس}، وكان يقال للنبي ليس عليك حرج وقيل لهذه {وما جعل عليكم في الدين من حرج}، وكان يقول للنبي سل تعط وقيل لهذه {ادعوني استجب لكم} [غافر: 60] أمر تعالى بـ: {الصلاة} المفروضة أن تقام ويدام عليها بجميع حدودها، وبـ: {الزكاة} أن تؤدي كما أنعم عليكم، فافعلوا كذا ثم أمر بـ: الاعتصام بالله أي بالتعلق به والخلوص له وطلب النجاة منه، ورفض التوكل على سواء، و{المولى} في هذه الآية الذي يليكم نصره وحفظه وباقي الآية بين. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {اركعوا واسجدوا}.
قال المفسرون: المراد: صلُّوا، لأن الصلاة لا تكون إِلا بالركوع والسجود، {واعبُدوا ربَّكم} أي: وحِّدوه {وافعلوا الخير} يريد: أبواب المعروف {لعلَّكم تُفْلِحون} أي: لكي تسعدوا وتبقوا في الجنة.
فصل:
لم يختلف أهل العلم في السجدة الأولى من الحج واختلفوا في هذه السجدة الأخيرة؛ فروي عن عمر، وابن عمر، وعمَار، وأبي الدرداء، وأبي موسى، وابن عباس: أنهم قالوا: في الحج سجدتان، وقالوا: فضّلت هذه السورة على غيرها بسجدتين، وبهذا قال أصحابنا، وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه.
وروي عن ابن عباس أنه قال: في الحج سجدة، وبهذا قال الحسن، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وإبراهيم، وجابر بن زيد، وأبو حنيفة وأصحابه، ومالك؛ ويدل على الأول ما روى عقبة بن عامر، قال: قلت: يا رسول الله أفي الحج سجدتان؟ قال: «نعم، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما».
فصل:
واختلف العلماء في عدد سجود القران، فروي عن أحمد روايتان، إِحداهما: أنها أربع عشرة سجدة.
وبه قال الشافعي، والثانية: أنها خمس عشرة، فزاد سجدة [ص: 24].
وقال أبو حنيفة: هي أربع عشرة، فأخرج التي في آخر الحج وأبدل منها سجدة [ص: 24].
فصل:
وسجود التلاوة سُنَّة، وقال أبو حنيفة: واجب.
ولا يصح سجود التلاوة إِلا بتكبيرة الإِحرام والسلام، خلافًا لأصحاب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي.
ولا يجزىء الركوع عن سجود التلاوة، وقال أبو حنيفة: يجزىء.
ولا يسجد المستمع إِذا لم يسجد التالي، نص عليه أحمد رضي الله عنه.
وتكره قراءة السجدة في صلاة الإِخفات، خلافًا للشافعي.
قوله تعالى: {وجاهِدوا في الله} في هذا الجهاد ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه فِعل جميع الطاعات، هذا قول الأكثرين.
والثاني: أنه جهاد الكفار، قاله الضحاك.
والثالث: أنه جهاد النفس والهوى، قاله عبد الله بن المبارك.
فأما حق الجهاد، ففيه ثلاثة أقوال.
أحدها: أنَّه الجِدُّ في المجاهدة، واستيفاء الإِمكان فيها.
والثاني: أنه إِخلاص النِّيَّة لله عز وجل.
والثالث: أنه فِعل ما فيه وفاء لحق الله عز وجل.
فصل:
وقد زعم قوم أن هذه الآية منسوخة، واختلفوا في ناسخها على قولين.
أحدهما: قوله: {لا يكلف الله نفسًا إِلا وسعها} [البقرة: 286].
والثاني: قوله: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16].
وقال آخرون: بل هي مُحْكَمَةٌ، ويؤكده القولان الأولان في تفسير حق الجهاد، وهو الأصح، لأن الله تعالى لا يكلِّف نفسًا إِلا وسعها.
قوله تعالى: {هو اجتباكم} أي: اختاركم واصطفاكم لدينه.
والحرج: الضِّيق، فما من شيء وقع الإنسان فيه إِلا وجد له في الشرع مَخرجًا بتوبة أو كفارة أو انتقال إِلى رخصة ونحو ذلك.
وروي عن ابن عباس أنه قال: الحرج: ما كان علي بني إِسرائيل من الإِصر والشدائد، وضعه الله عن هذه الأمة.
قوله تعالى: {مِلَّةَ أبيكم} قال الفراء: المعنى: وسّع عليكم كملَّة أبيكم، فإذا ألقيتَ الكاف نصبتَ، ويجوز النصب على معنى الأمر بها، لأن أول الكلام أمر، وهو قوله: {اركعوا واسجدوا} والزموا ملَّة أبيكم.
فإن قيل: هذا الخطاب للمسلمين، وليس إبراهيم أبًا لكُلِّهم.
فالجواب: أنه إِن كان خطابًا عامًّا للمسلمين، فهو كالأب لهم، لأن حرمته وحقَّه عليهم كحق الولد، وإِن كان خطابًا للعرب خاصة، فإبراهيم أبو العرب قاطبة، هذا قول المفسرين.
والذي يقع لي أن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن إبراهيم أبوه، وأُمَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم داخلة فيما خوطب به رسول الله.
قوله تعالى: {هو سمَاكم المسلمين} في المشار إِليه قولان.
أحدهما: أنه الله عز وجل، قاله ابن عباس، ومجاهد، والجمهور؛ فعلى هذا في قوله: {مِنْ قَبْلُ} قولان.
أحدهما: من قبل إِنزال القران سمَاكم بهذا في الكتب التي أنزلها.
والثاني: {مِنْ قَبْلُ} أي: في أُمّ الكتاب، وقوله: {وفي هذا} أي: في القرآن.
والثاني: أنه إبراهيم عليه السلام حين قال: {ومِنْ ذُرَّيِّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128]؛ فالمعنى: من قَبْل هذا الوقت، وذلك في زمان إبراهيم عليه السلام، وفي هذا الوقت حين قال: {ومن ذريتنا أمة مسلمة}، هذا قول ابن زيد.
قوله تعالى: {ليكونَ الرسولُ} المعنى: اجتباكم وسمَاكم ليكون الرسول، يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم {شهيدًا عليكم} يوم القيامة أنه قد بلَّغكم؛ وقد شرحنا هذا المعنى في [البقرة: 143] إِلى قوله: {وآتوا الزكاة}.
قوله تعالى: {واعتصموا بالله} قال ابن عباس: سَلُوه أن يَعْصِمكم من كل ما يُسخط ويُكْرَه.
وقال الحسن: تمسَّكوا بدين الله. وما بعد هذا مشروح في [الأنفال: 40]. اهـ.